المُؤلِّفُ

بقلم: فريد غانم
يخرجُ من نفسِهِ، ويصيرُ اثنَيْن، ثلاثةً، جُمهورًا غفيرًا، زمنًا مُشعًّبًا، وأمكنةً متآكلةً بالأبيضِ والأسود.
تختمرُ الألوانُ في ساعاتِ الفَجْرِ.
وهو يكادُ يعِي أنّه لا يعِي، ويكادُ يرى عماءَهُ.
وحينَ ينسلخُ اللَّيْلُ خِلسةً من تحتِ أقدامِ النّهار، وتملأُ النّجومُ حقائبَ السَّفَر، يعودُ هو مختلِطًا بالضَّوْءِ والعَتمةِ ويضيعُ في لُعبة المرايا.
ذاكرةٌ مُشظَّاةٌ تلتئمُ فوقَ بياضٍ يحتمِلُ كلَّ شَيْء. دماغٌ يتقافزُ خارجَ الجُمجُمَة. زواحفُ تخرجُ من البَحرِ، بذاكرةٍ لولبيّةٍ، وتنامُ في فراشِهِ. لبوناتٌ تسابقُ الرِّياحَ وتلتقطُ أنفاسَها خلفَ رمشَيْهِ. خطيئةٌ أزليّةٌ تطرقُ الصَّدغَيْن. طبولٌ تطردُ الأرواحَ الشِّرّيرة. نارٌ عندَ المدفأةِ تطردُ المجهولَ والبَرْدَ. بابوناتٌ تصعدُ، بمصعدٍ كهربائيٍّ، على الأشجارالمتسلِّقة على الهواء. ضبابٌ دِلْفيٌّ يدلِفُ من المسامات.
وهو يخرجُ من صدرِه من غيرِ قصدٍ؛ يرصِّعُ السَّقفَ بالمجرّاتِ، يُحيي من يشاءُ ويميتُ من يشاءُ، يملأُ العباءةَ المهروءةَ بسحنةِ جدِّه الكبير، يثيرُ العواصفَ حين يسوءُ مزاجُه، يسكبُ الرّبيع على الأرضِ حينَ يطيبُ، ويكونُ إلٰهًا عابرًا فوقَ كَوْنٍ من ورَقٍ.
…..
يتبدّلُ الفَجرُ. نهارٌ قادمٌ ليشوِّشَ الرّؤية.
قلمٌ يسيلُ، والقلبُ دوَّاةٌ. أناملُ ليسَ يعرفُها ترقصُ بين الصّفحات. حروفٌ تشحذُ سيوفَها. لُغاتٌ مُصابةٌ بالعجْزِ تعلنُ شهوتَها. زغاريدُ تخرجُ من شَعْرِ الفَجيعة. فجيعةٌ مُحنّاةٌ تُزفُّ إلى البُيوت. رُسوماتُ الكُهوفِ تقومُ على جدرانِ الإسمنت وواجهاتِ الزُّجاج. أحلامٌ تتعثّرُ في الطّريق.
وفي الصّفحةِ الأخيرة، عندَ نقطةِ النّهاية، قُبيلِ انقشاعِ الظَّلامِ، يستلقي القلمُ ليجفَّ قليلًا. أمّا هو فيضعُ قلبَهُ ورأسَهُ وزهرةً نفدَ عبيرُها تحتَ الكرتون، يستعيدُ أناملَهُ المسافرة ليحكَّ دغدغةً في رأسِ أنفِه، يرتشفُ القطرةَ الأخيرة من القهوة الباردة، ويموتُ.
يموتُ مرّةً أخرى.
فبعدَ قليلٍ، قبلَ أن يغتربَ عن كلامِهِ ويغمرُه العثُّ، سوفَ تتقاسمُ عُيونُ المارّةِ أضلاعَهُ وتفتحُ في جسَدِهِ نوافذَ مُشرَّعةً على كلِّ الجِهات.ُ