بقلم/ مصطفى عبد الله
هو تلميذ للمفكر الكبير الدكتور زكي نجيب محمود، الذي درّس له في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، فتأثر بدروسه في الوضعية المنطقية، لكن عبدالرشيد الصادق محمودي – الذي وصل اليوم إلى عامه السابع والسبعين، ونال مؤخرًا إحدى أهم الجوائز العربية “جائزة الشيخ زايد للكتاب – فرع الآداب” عن روايته “بعد القهوة” – سرعان ما تشكك في هذا المذهب الذي أتى به أستاذه زكي نجيب لكونه يرفض جميع المذاهب الفلسفية ويعتبرها ميتافيزيقية، وهذه الميتافيزيقية في رأي الوضعية المنطقية كلام فارغ من المعنى.
وقال لنفسه: “إن فلسفة ترفض كل ما عداها من الفلسفات لا يمكن أن تكون سليمة”، لكن علاقته الشخصية بأستاذه الراحل ظلت قوية، واستمرت حتى بعد أن سافر محمودي إلى إنجلترا في بعثة.
ويؤكد لي محمودي – الذي رافقته إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي ليتسلم أول جائزة في حياته – أن زكي نجيب محمود أسهم إسهامًا كبيرًا في تطوره الفكري، فقد حرضه بعد التخرج من قسم الفلسفة، على ترجمة السيرة الذاتية لبرتراند راسل “فلسفتي كيف تطورت” إلى العربية.
وقد تردد محمودي في النهوض بهذه المهمة التي شعر بصعوبتها، وبدا له أنه غير مهيئ بعد لترجمة هذا العمل الضخم، لكن أستاذه أصر وشجعه بقوله: “ترجم الكتاب ولا تقلق.. فسأراجعه بنفسي، وأكتب مقدمته”.
اقترح محمودي أن يترجم ثلاثين صفحة فقط، فإذا أرضت أستاذه واصل الترجمة، أما إذا لم تَرٌق له توقف على الفور، وبالفعل ترجم الجزء المقترح، وحاز إعجاب زكي نجيب محمود، فواصل العمل حتى انتهى من الكتاب كله.
ويذكر لي الدكتور عبدالرشيد ونحن على متن الطائرة العائدة بنا إلى القاهرة، أنه عندما أنجز الترجمة كاملة حملها إليه وقدمها له، وبعد أن راجعها أستاذه أجازها، بعد أن قام بحل المشكلات التي اعترضت طريق المترجم الشاب.
ويشير محمودي إلى أن الدكتور زكي نجيب محمود صعد إلى غرفته وعاد يرتدي ملابس الخروج، وقال له: “هيا بنا”، فاستفسر محمودي: “إلى أين يا دكتور؟”، فأجابه: “إلى ناشري”، وذهبا معًا إلى صبحي جريس صاحب “مكتبة الأنجلو المصرية” وقدم له مسودة الترجمة، فتردد الناشر وأوشك على الاعتذار بحجة أن شابًا مثل محمودي يصعب عليه الاضطلاع بترجمة سيرة رسل، فبادره الدكتور زكي نجيب قائلًا: “انشره على مسئوليتي، وسأقرره على طلبتي من العام المقبل”، وقد كان.
يا سلام .. أنظروا كيف كان زكي نجيب محمود يساعد طلابه، وكيف كان شديد الحماس للعمل الجاد، وشديد التدقيق فيه، ولم يكن يدخر وسعًا في مساعدة أحد من تلاميذه، وقد كان هذا الكتاب لبرتراند راسل “فلسفتي كيف تطورت” أول ترجمة تصدر لمحمودي.
وإزاء نجاحه في هذه التجربة الأولى بادر الدكتور زكي نجيب بالاستعانة به في مشروع أضخم، وهو ترجمة “الموسوعة الفلسفية المختصرة”، بالاشتراك مع فؤاد كامل وجلال العشري.
وقد أجاز الأستاذ ترجمتهم، وأضاف إلى الموسوعة عدة مقالات كتبها بنفسه في الفلسفة الإسلامية.
ويسافر محمودي إلى إنجلترا قبل صدور ترجمة هذه الموسوعة المهمة، لكن الصلة بينه وبين أستاذه تمتد أثناء إقامته الأولى في لندن، وقد اعتاد الدكتور زكي نجيب، كلما ذهب إلى لندن، أن يزوره في منزله ليطمئن عليه، فقد كان الرجل صديقًا لطلابه وأبًا عطوفًا عليهم، وهو لم يكن يخص محمودي وحده بهذا الكرم، فقد كان يساعد غيره من تلاميذه المحتاجين ماليًا، ويسعى لتوظيفهم بعد التخرج.
وإذا ما اقتربنا من مجالات إبداع الدكتور زكي نجيب محمود نجد أنه كان يمتلك أسلوبًا ناصعًا لأنه نشأ في وسط أدبي ضم: طه حسين، العقاد، أحمد أمين، وهؤلاء الأعلام كانوا مثله الأعلى، لكن لسوء حظه أنهم كانوا من الشهرة والضخامة بحيث أصبح مغمورًا بالنسبة إليهم!
لكنه – كما يرى محمودي – أراد أن يكون أديبًا قبل أن يكون فيلسوفًا، وكانت النزعة الأدبية تلازمه حتى وهو يتفلسف، ولذلك نجد أن له أسلوبًا أدبيًا رصينًا، لكنه لم يكن يستطيع نظم الشعر مثل المازني، أو كتابة القصة والرواية، ويذكر محمودي أن زكي نجيب كان يتحسر أحيانًا لعجزه عن كتابة قصة حياته وإن حاول ذلك مرتين؛ يقصد “قصة نفس”، و”قصة عقل”، لكنه كان يرى أنه مهما حاول كتابة سيرته الذاتية، فإن الناتج يغلب عليه الطابع الذهني بدلًا من الطابع الأدبي، وقد كان ينقصه هذا البعد، ولذلك فالمقال كان مجاله الأدبي المفضل.
من هنا تميزت “جنة العبيط” وبعض مجموعاته الأخرى من المقالات، ونحن نجد في “جنة العبيط” روحًا أدبية وعاطفة جياشة وسخطًا على المظالم في المجتمع المصري، وقد كانت أقرب إلى الأدب من المقال الفكري.
ويرى محمودي أن القيمة الأدبية لأستاذه تتجلى أيضًا في كتاباته الفلسفية الصرف، فأسلوبه رصين وواضح ومتسلسل، وقد كان في أحسن حالاته عندما يترجم، لأنه يعتبر الترجمة جانبًا من إبداعه الأدبي، فهو من أصحاب الأساليب.
وعندما أسأل الدكتور عبدالرشيد محمودي عن الإحساس الذي انتابه عندما بلغه نبأ فوزه بأول جائزة في حياته، يجيبني: “غمرتني السعادة، لاسيما وأن هذا التقدير عبر عن رأي مجموعة من الأدباء والنقاد والمفكرين وذوي الاختصاص من مختلف أنحاء وطننا العربي”.
ويرى أن هذا الاتفاق على تكريم روايته مدعاة لاعتزازه وفخره، لأنه يعتقد أن اجتماعهم على هذا الرأي يعني الوفاء بأقصى درجة من الحيدة والموضوعية، وهذا مصدر اعتزاز بالنسبة إليه، كما أنه مصدر شعور بالمسئولية، فعليه أن يحاول الاحتفاظ بهذا المستوى، إن لم يتجاوزه إلى ما هو أعلى، وهذه مهمة ثقيلة تمنى لو تمكن من الوفاء بها.
وعندما أسأله عن هذه الأيام الستة التي أمضاها بصحبة أعضاء اللجنة العلمية لهذه الجائزة التي تضم: الدكتور علي بن تميم، الأمين العام، والدكاترة: سعيد توفيق، سهام الفريح، مسعود ضاهر، خليل الشيخ، محمد بنيس، وكاظم جهاد، وكيف أتاحت له الفرصة للتعرف على آرائهم في نصه الفائز، يقول: “أسعدني أن ألتقي بأعضاء هذه اللجنة العلمية، وبعضهم كنت أعرفهم عن بعد، ولم أستمع إلى آرائهم في الرواية كل على حدة، ولكنني بطبيعة الحال لمست تأييد من أيدني، وعلمت أن بعضهم لم يكن في صفي، ومع ذلك فقد سعدت بلقائهم جميعًا، وأعتقد أن هذه الأيام التي أمضيتها معهم كانت مفيدة لنا جميعًا.
وقد دعيت أثناء وجودي لتسلم الجائزة في رحاب معرض أبوظبي الدولي للكتاب في الرابع من مايو/آيار الماضي لحضور أكثر من ملتقى؛ فتحدثت عن طه حسين في منتدى “مؤسسة بحر الثقافة” داخل أروقة المعرض باعتباري من نقل كتابات طه حسين الفرنسية من الشاطئ الآخر، وقد كان ذلك في حضور الدكتورة مها عون، حفيدة الدكتور طه حسين، التي تحدثت عن إتاحة تراث العميد بالمجان على شبكة الإنترنت من خلال اتفاق أبرمته مع “مؤسسة هنداوي للنشر”، ومن بين حضور هذا اللقاء أيضًا الكاتب المصري زكريا أحمد، والإعلامي خالد غازي، ومصطفى عبدالله، كاتب هذه السطور الذي أهدي “مؤسسة بحر الثقافة” أحدث طبعات من كتب طه حسين الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
و”مؤسسة بحر الثقافة” تسعى إلى تعزيز العمل والإنتاج الثقافي المحلي والعربي وإبرازه عالميًا وبناء الجسور الثقافية والفكرية والمعرفية بين الإمارات ودول العالم. وأهدافها العامة تتمثل في: الإسهام في تعزيز مكانة الثقافة العربية والاهتمام بكافة فروعها وروافدها وتقديمها للعالم، وتعزيز الاهتمام بثقافة المرأة والطفل، وتتمثل أهدافها الفرعية في: ترجمة الكتب العربية التي تتمتع بمكانة فكرية وأدبية عالية إلى اللغات الأخرى، من أجل التعريف بها، ورفدًا للجسور الثقافية بين الشعوب، وتشجيع الأعمال الفكرية والأدبية والفنية للإماراتيين من خلال توفير بيئة حاضنة وداعمة لأنشطتهم، وتعزيز ورفد الأنشطة الثقافية في دولة الإمارات، والمشاركة في المحافل الثقافية المحلية والدولية من خلال “صالون بحر الثقافة النسائي” وبرامجه الفكرية والثقافية الموجهة لجميع فئات المجتمع، وإبراز حضور ومشاركة المرأة الإماراتية الثقافية والفنية في المحافل الثقافية والفكرية المحلية والدولية، والنهوض بثقافة المرأة ووعيها الثقافي وإبراز إنتاجها الفكري والثقافي، وتعزيز وتشجيع ثقافة الطفل من خلال برامج القراءة للطفولة، وصالون بحر الثقافة للطفولة.
واللقاء الأهم هو الذي التقى فيه محمودي جمهور معرض أبوظبي في مفتتح أنشطة “مؤسسة جائزة الشيخ زايد للكتاب”، وهو اللقاء الذي كان مفتوحًا على الأجنحة والرواد والكتب، وكان تقديمه وإدارته من نصيب الدكتور خليل الشيخ، عضو الهيئة الاستشارية للجائزة.
ويذكر محمودي أن خليل الشيخ قرأ الرواية قراءة فاحصة مكنته من طرح آراء مهمة حولها تظل محل الإحترام والتقدير، وإن كان يأخذ على الشيخ أنه محافظ، وهو في حواره معه لم يكن يرغب في الوقوف موقف الدفاع عن عمل كتبه، فقد حاول في ردوده عليه أن يتجنب موقف المدافع، وأن يحاول بقدر الإمكان شرح الدوافع التي حدت به إلى كتابة روايته بالطريقة التي جاءت عليها، ويصرح محمودي بأن روايته أصبحت وراءه ولم يعد يعنيه من أمرها شيئًا؛ فقد كتبها، وغامر في كتابتها، وليقل النقاد والمعلقون ما يريدون، فإنه الآن تجاوزها إلى أعمال أخرى.
“بعد القهوة”، التي كتبها مؤلفها تحت عنوان آخر هو “ليالي الأنس” تتألف من ثلاثة أجزاء يستقل كل منها بعنوان خاص به – هي على التوالي: “قاتلة الذئب”، و”الخروف الضال”، و”البرهان”- وهو بمثابة رواية قائمة بذاتها.
من هنا كانت “يعد القهوة” رواية “ثلاثية” كما يصفها مؤلفها فى عنوان فرعي.
تدور أحداث الجزء الأول “قاتلة الذئب” في قرية مصرية هي “القواسمة” (أولاد قاسم) بمحافظة الشرقية؛ وتدور أحداث الجزء الثاني “الخروف الضال” بين مدينتة الإسماعيلية في منطقة القنال وأبوكبير في محافظة الشرقية؛ وتدور أحداث الجزء الثالث “البرهان” في فيينا عاصمة النمسا.
والرابط الرئيس بين هذه الأماكن المتباينة هو مسيرة طويلة يقطعها بطل الرواية “مدحت” بداية من طفولته في قرية أولاد قاسم، مرورًا بصباه الأول وتعليمه بين الإسماعيلية وأبوكبير، حتى ينتهي به الأمر إلى الإقامة في فيينا مرتين: مرة بعد التحاقه بالسلك الدبلوماسي – وقد شهدت المدينة عندئذ ولادة روايته الأولى وفشل زواجه؛ ومرة أخرى بعد عقدين من الزمان. فلماذا عاد إلى فيينا؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه “مدحت” على نفسه طيلة الوقت، ولا يكاد يجد عنه جوابًا حاسمًا.
ولكننا على أي حال بإزاء رحلة طويلة في المكان، والزمان، وبحثًا عن الحب، وبحثًا في النفس، وصراعًا بين الجسد والروح، وحبًا في الموسيقى. وتحفل الرواية من ثم ببيئات مختلفة، وبشخصيات متعددة – بالإضافة إلى شخصية البطل – وتحتشد بقصص فرعية كثيرة. وهي ثرية بفضل الروافد الثقافية التي غذتها، وباختلاف الأساليب اللغوية والقصصية، وتنوع المشاهد التي تتنقل بين ما هو هزلي وما هو جاد شديد الجد. ولكن اللافت للنظر أن الرواية رغم كل ذلك تأتي ككل متكامل وكنسيج واحد خيوطه متعددة ومتقاطعة ومتشابكة. ومن الملاحظ أيضًا أن الانتقال من مكان إلى مكان ومن فترة زمنية إلى أخرى يتم بسهولة وسلاسة، وإن كان حافلًا بالمفاجآت والأحداث المثيرة للدهشة. بل إن هناك ما يشبه الحضور لكل شيء؛ فما وقع للبطل في طفولته أو صباه يعود إلى الظهور ويصبح حاضرًا في فيينا.
وفيينا نفسها تجد ما يبشر بها. فالجزء الثالث من الرواية يشير إلى أغنية أسمهان المشهورة – “ليالي الأنس في فيينا”، والجزء الثاني يشير إلى أغنية أخرى – “يا زهرة في خيالي” – لأخيها فريد الأطرش. يسمع البطل هذه الأغنية لأول مرة في الإسماعيلية، ثم يستحضرها عند زيارته الثانية لفيينا ويرى رقصة التانجو.
في بعض الأحيان يخيل للقارئ أنه بصدد قصة خرافية – “حدوتة” كما يقال بالعامية المصرية – فهناك شخصيات وحكايات ذات أبعاد يمكن أن تكون “خرافية”، مثل “زينب” جدة البطل التي يروي أنها قتلت الذئب، أو “ماريكا” الخوجاية اليونانية التي تهبط ذات يوم على قرية “أولاد قاسم” لتأخذ “مدحت” اليتيم إلى الاسماعيلة، فتعلمه اليونانية والفرنسية، وبفضلها يسلك طريقه إلى المدرسة، وعن طريقها يتعرف على أوروبا لأول مرة (فيما يسمى “حى الأفرنج” في الاسماعيلية الذى أريد له أن يكون قطعة من أوروبا)، ثم يقذف به إلى أوروبا في نهاية المطاف؛ ومثل قصة الحب العارمة بين “ماريكا” و”سالم” خريج الأزهر الذي يأتي ليلًا على صهوة جواده لكي يزورها في مخدعها ويختطفها كما يعتقد البعض في أبوكبير.
شخصيات وحكايات لها أبعاد خرافية لأنها تضرب بجذورها في موروثات فولكلورية مصرية وأسطورية يونانية.
ومع ذلك، فإن الرواية واقعية شديدة الواقعية. فالقارئ إذ يتنقل مع المؤلف بين تلك البيئات المختلفة يرى البيئة المعنية – سواء أكانت قرية “القواسمة” أو الإسماعيلية أو أبوكبير أو فيينا – واضحة المعالم بل شديدة الثقل والوطأة – إذا صح التعبير، ذلك أن بطل الرواية لا يعيش في أي مكان إلا ويحدد لنفسه الآفاق الجغرافية والمعالم المادية لكل بيئة لأن كلًا منها مجال لتجواله وضياعه أو “ضلاله” – كما يشير عنوان الجزء الثاني من الرواية: “الخروف الضال”، فمدحت من بداية القصة إلى نهايتها إنسان مغترب أينما كان – يرى نفسه في أحد أحلامه ككائن قادم من الفضاء الخارجي جسمه سفينة فضائية. ولكنه يجد في كل بلد مجالًا يتحرك فيه على غير هدى وبلا هدف – سوى أنه يعشق الأمكنة أينما حل، ويعشق السفر فيها. وكأنه يبحث عن الاستقرار في كل مكان يحل به، ولكنه مضطر لسبب أو لآخر إلى الرحيل عنه. أم أنه يريد الرحيل؟
ومن بين القصص الفرعية التي تحفل بها الرواية قصة تعلق “مدحت” بالموسيقى، وهي قصة فرعية لكنها تمثل خطًا بارزًا يمتد من بداية الرواية إلى نهايتها. فهو لا يذكر يومًا من أيام حياته خلا من الموسيقى، ولم تدعه الموسيقى أو “تطارده” فيه. الموسيقى تلح عليه وتناديه منذ طفولته المبكرة، منذ أن كان يستمع – وهو لا يزال رضيعًا على صدر مرضعته – إلى شعراء الربابة وهم ينشدون ملاحمهم وحتى استمع لأول مرة في حياته إلى الموسيقى الغربية الكلاسيكية في القاهرة، ثم عرف هذه الموسيقى معرفة وثيقة وأقبل على دراستها وتعلمها في فيينا.
خط متواصل كأنه لحن مستمر لا يتوقف إلا ليعود إلى التردد من جديد، لذلك كانت الموسيقى والغناء يحتلان مكانة مركزية في الرواية، وهما جزء لا يتجزأ من حياة البطل وضلاله. ويبدو أن هذه الظاهرة – ظاهرة الاهتمام بالموسيقى والموسيقى الكلاسيكية على وجه التحديد – هي أحد جوانب الجدة والأصالة في هذه الرواية، وباب في القص يفتح لأول مرة في الرواية العربية.
وهناك قصة فرعية أخرى تدور أحداثها في فيينا، لكنها تحتل بدورها مكانة مركزية لأنها تشكل الخاتمة، وهي بدورها تبدو وكأنها قصة خرافية أو “حدوتة”. ذلك أن البطل يرى أثناء زيارته الأخيرة لفيينا فتاة “تظهر” وتختفي ثلاث مرات في غضون فترة زمنية قصيرة، وهو يلتقى بها في المرة الثالثة مع أختها وأبيها ويفتن بالأختين: يحب الصغرى التي دعته إلى العشاء مع الأسرة ثم اختفت كعادتها، ويشتهي الكبرى لأنها متاحة ومغرية وتدعوه، فكيف يخرج من هذا المأزق أو هذه المحنة؟ هو إذن يحتاج إلى “برهان”. وهنا يشير المؤلف إلى قصة يوسف عليه السلام، وما جاء في الآية الكريمة “… لولا أن رأى برهان ربه”. كما يشير إلى نداء صادر من أعماق البطل أوحت به الموسيقى: “انتصر للفرح”. وكل ذلك يحدث في ظل عاصفة ثلجية، ويسترجعه البطل في حالة بين اليوم واليقظة وبين التداعيات النفسية وما يشبه الكتابة.
ولنترك للقارئ فرصة الاطلاع بنفسه على طبيعة “البرهان” و”لانتصار للفرح”. ولكن لا يفوتنا أن نشير إلى أن قصة يوسف تذكرنا بأن هذه الرواية الحافلة بالمفاجآت المثيرة دائمًا للدهشة تنهل من روافد ثقافية متعددة. فهي – بالإضافة إلى الفولكلور المصري – تتضمن الرواية إحالات صريحة أو ضمنية إلى الكتب السماوية الثلاثة، والأساطير اليونانية – وبخاصة ما جاء في “إلياذة” و”أوديسة” هوميروس – وبصفة أخص قصة ضياع أوديسيوس (يوليسيس أو “عولس” كما نقول بالعربية)، وهو في طريقه إلى وطنه عائدًا من الحرب على طروادة – وإلى عدد من الروايات العالمية الخالدة مثل “الإخوة كارامازوف” لدوستويفسكي، و”الدكتور فاوستوس” لتوماس مان. ومدحت في نهاية المطاف خلطة غريبة عجيبة، فهو فلاح مصري، لكنه في الوقت ذاته يوناني قديم وأوروبي معاصر.
ومن اللافت للنظر أن تلك الإحالات تخلو من التكلف والتحايل ولا تثير في نفس القارئ أي شعور بالحيرة أو الاضطراب، فكل ما فيها يبدو طبيعيًا وضروريًا مثله في ذلك مثل الحضور الدائم للأماكن والأزمنة المختلفة، ومثل التشابه بين بعض الشخصيات الريفية الملتصقة بالأرض، وأبطال الأساطير المحلقين في السماء. فليس في عرف هذه الرواية مسافة شاسعة بين فلاح على ظهر حمارته وهو يستمع إلى “النداهة” وأوديسيوس على ظهر سفينته وهو يخشى أن يتعرض لغناء الجنية الساحرة، فيطلب إلى ملاحيه أن يشدوا وثاقه إلى الصاري كيلا يلبي النداء.
وقد جاء في حيثيات منح الجائزة التي أعلنها أمينها العام الدكتور علي بن تميم: “تستلهم الرواية التقاليد السردية الكلاسيكية والعالمية الاصيلة وتبرز مهارة السرد وسلاسة المؤلف في الانتقال، ودقته في تجسيد الشخصيات من الطفولة الى الكهولة، بالاضافة الى تجسيد دقيق للعالم الروائي ورسم فضاءات وتحليل الشخصيات في حالة تقلباتها بين الأمل والانكسار، والجمع بين الواقع والاسطوري في اهاب واحد.
وتتناول رواية “بعد القهوة” النسيج الاجتماعي والطبيعة الطبوغرافية والملامح الانثروبولوجية للقرية المصرية في الاربعينيات من القرن الماضي. أما على الصعيد الأسلوبي ففيها تزاوج بين فصحى السرد، والحوار البسيط الذي يكشف عن طبيعة الشخصيات الروائية.
والدكتور عبدالرشيد الصادق محمودي في سطور هو موظف سابق في منظمة اليونسكو بباريس، بدأ حياته في المنظمة كمترجم، فرئيس لتحرير الطبعة العربية من مجلة “رسالة اليونسكو”، فأخصائي برامج في قطاع الثقافة، فمستشار ثقافي.
درس الفلسفة بجامعتي: القاهرة ولندن، وحصل على دكتوراه (في مجال دراسات الشرق الأوسط) من جامعة مانشستر، مارس الكتابة الإذاعية للبرنامج الثاني في إذاعة القاهرة وللقسم العربي في البي بي سي بلندن، كما اشتغل بالترجمة في القاهرة ولندن.
وهو كاتب متعدد الاهتمامات: شاعر، قاص، روائي، مترجم، وباحث في مجالات الفلسفة والنقد وتاريخ الأدب، نشر مجموعة شعرية “حبًا في أكلة لحوم البشر” عن مركز الحضارة العربية، بالقاهرة 2006، وثلاث مجموعات قصصية: “ركن العشاق” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2007، “زائرة الأحد” في سلسلة كتاب اليوم، القاهرة 2009، “اللورد شعبان” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2004، وروايته الأولى “عندما تبكي الخيول” صدرت في سلسلة “روايات الهلال”، القاهرة، 2009، وله مؤلفات عدة في المجالات الأخرى المذكورة.
رواية “بعد القهوة” هي روايته الثانية، وقد صدرت عن مكتبة الدار العربية للكتاب بالقاهرة 2013، وهو منشغل هذه الأيام بإعداد بحث عن العلاقة بين النقل والعقل أو الشريعة والفلسفة كما طرحت في الإسلام وفي الغرب.
وقد صدرت له في مجال الترجمة: برتراند رسل “فلسفتي كيف تطورت – الطبعة الثانية عن المركز القومي للترجمة، القاهرة 2012، بعد أن صدرت الطبعة الأولى عن مكتبة الأنجلو المصرية، وترجم مع آخرين “الموسوعة الفلسفية المختصرة” في مشروع “الألف كتاب”، القاهرة 1962، “طه حسين، من الشاطئ الآخر”، كتابات طه حسين الفرنسية في طبعتها الثانية عن المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008.
كما حقق وقدم “طه حسين، الكتابات الأولى” الذي صدر عن دار الشروق، القاهرة 2002، وله مؤلفات بالإنجليزية.